عرسال وهمومها منقولة من مدونة خالد الحجيري

عرسال وهمومها
برمجة خالد الحجيري



عرسال، هذه البلدة اللبنانية المتحصنة في جرود السلسلة الشرقية من لبنان، تمثل عينة عن البلدات والمدن اللبنانية البعيدة عن العاصمة بيروت؛ هذا البعد، لا يشكل رقما لقياس المسافة فحسب، بل هو رقم يعبر عن بعد السلطة، منذ نشأة لبنان، عن تقديم الحد الأدنى مما يفترض بالدول ان تقدمه لرعاياها؛ ما أنتج مزيجا من الهموم والمشاكل على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عانى منها الناس وما زالوا، في شراكة تبدو دائمة، مع غيرها من البلدات والمدن المحرومة في اطراف الكيان اللبناني؛ وفي ما يلي، سأحاول تحديد هذه المشاكل وحصرها،حيث انني احد ابناء هذه البلدة، على أمل ان يساعد ذلك في اجتراح تصور للحلول، الذي قد يبقى نظريا، ولكنه سيكون مفيدا على كل حال.


على الصعيد السياسي، والحديث هنا ذو شجون، بقي الواقع السياسي في عرسال مرهونا بالنظام السياسي الطائفي، ولاحقا المذهبي، في لبنان، ما جعل دور عرسال السياسي محدودا، كونها تشكل اقلية في محيطها الطائفي والمذهبي المختلف؛ ومحدودية الدور السياسي الذي جعل عرسال ضعيفة التأثير في المعادلات والمنازلات السياسية من انتخابات وغيرها، نتج عنه اهمال مزمن، منظم غالبا، من قبل السلطة اللبنانية القائمة على المحاصصة واقتسام السلطة؛ هذا الواقع المذهبي وما نتج عنه من اهمال، يمثل حجر الزاوية في كل ما تعاني منه عرسال ومثيلاتها من البلدات اللبنانية الأقلوية مذهبيا وطائفيا في مناطقها. وفي الأزمة الأخيرة التي عصفت وتعصف بلبنان، مالت عرسال مع الرياح المذهبية، شأنها في ذلك شأن باقي الجماعات في لبنان، بل والمنطقة ككل؛ لكن تأثير هذا الاصطفاف على عرسال كان اقوى عليها من غيرها، نظرا لموقعها الجغرافي الحساس، ما انعكس سلبا على علاقاتها بجيرانها، وبالتالي على مصالح أبنائها؛ والرياح المذهبية، كما يحصل عموما، ادت إلى غياب الاصوات العاقلة، التي كانت ضعيفة اصلا، بعد افراغ الاحزاب الوطنية في البلاد ككل من مضمونها في الفترة السابقة، لتحل محلها زعامات عائلية ضعيفة يأخذها الهوى المذهبي إلى حيث تريد الجماعات المذهبية الكبرى في لبنان من مواقف متطرفة، دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح الأهالي،سواء كان ذلك مقصودا او عن سوء ادارة، وهو ما أدى إلى الحاق الضرر بالواقع السياسي للبلدة ومصالح أبنائها، حيث كان من المفترض اتخاذ موقف سياسي معتدل، ولو إلى جانب طرف معين؛ كما فعلت بعض الفاعليات السياسية في بلدات ومدن تشترك مع عرسال في واقعها المذهبي والطائفي، كصيدا على سبيل المثال لا الحصر. إن ما يمكن ان ينعكس ايجابا على الحياة السياسية في البلدة، على افتراض خروج البلاد من ازمتها المستفحلة التي لا يبدو حلها قريبا، هو تطبيق بند إلغاء الطائفية السياسية في البلاد وفق اتفاق الطائف، وما يمكن ان ينتج عنه من انتعاش الاحزاب على المستوى الوطني وإقرار قوانين انتخابية اقرب إلى الديمقراطية من القوانين الحالية؛ فتخرج عرسال من واقعها كرقم ضعيف في المعادلة، وتصبح على قدم المساواة مع غيرها في محيطها. ولا يضطر ابنائها عندئذ إلى طرق أبواب المرجعيات للحصول على وظيفة من الدرجة الثالثة في أحسن الأحوال، وليس هناك غالبا من مجيب. أما على المستوى الاقتصادي، فعرسال عانت تاريخيا من اهمال السلطة لمشاريع التنمية الاقتصادية. فالزراعة التي كان الكثيرون يعتاشون منها، اصبحت عاجزة عن توفير الحد الادنى من مستلزمات العيش، في ظل المنافسة الشرسة للمنتجات الاجنبية وغياب دعم الدولة واتفاقيات التصدير للمنتوجات الزراعية اللبنانية؛ وذلك ما جعل الاهالي يتوجهون إلى صناعة حجر الزينة، فأصبحت هذه الصناعة أهم عصب اقتصادي في عرسال؛ وهذه الصناعة تعاني من مشاكل عديدة، اهمها غلاء الوقود ونقصان اليد العاملة، ومنافسة المنتج الاجنبي، وعرقلة السلطات لأشغال الناس بحجة مخالفة القانون، رغم الصعوبات التي وضعتها هذه السلطات في طريق قوننة هذه الصناعة.كما يعتاش بعض الناس من تهريب البضائع إلى سورية، وهو امر طبيعي في ظل الاهمال المستفحل الذي تعيشة البلدة.وايقاف التهريب لا يكون إلا بعلاج السبب الاساسي له وهو هذا الاهمال المتعمد لأوضاع الناس.


وأخيرا نعرج على القضايا الاجتماعية، ولا بد من الاشارة ان البلدة سجلت معدلا عاليا جدا في الولادات في السنوات الأخيرة نسبة إلى عدد سكانها، حيث فاق عدد المواليد ال700 سنة 2007؛ هذا العدد يثير قضية التعليم، فوفقا لذلك تحتاج عرسال سنويا لمدرسة جديدة، وهذا يأخذنا إلى واقع التعليم في عرسال، فالبلدة تفتقر إلى المدارس المؤهلة تأهيلا جيدا؛ والمدارس الرسمية تعاني من نفس المشاكل التي يعاني منها التعليم الرسمي بشكل عام في لبنان، أما تلاميذ المدارس الخاصة فيعانون من ضعف الكادر التعليمي بسبب المحسوبيات، ومن جشع بعض اصحاب المدارس.أما بالنسبة للشباب الجامعي، فحدث ولا حرج عن المشاكل التي يواجهها الطلاب، فالوضع المادي للأهالي يجعل من الصعب عليهم تعليم ابنائهم في جامعات كبيرة، فلا يعود امامهم سوى الجامعة اللبنانية بما فيها من مشاكل وعقبات وامتحانات دخول وغيرها، او بعض الجامعات التجارية التي تعطي شهادات ضعيفة وغير معترف بها.

والجدير ملاحظته ايضا غياب الدور الفاعل لمؤسسات المجتمع المدني عن الساحة، فرغم تواجد بعض الجمعيات وممارسة بعض النشاطات المهمة، تبقى هذه الجمعيات غير قادرة على لعب دور فاعل في النهوض بقدرات المجتمع والانطلاق بها؛ كما تغيب النوادي الثقافية والرياضية التي تمتص طاقات الشباب في اتجاهات مفيدة وبناءة. هذا الغياب لمؤسسات المجتمع المدني نتيجة مشتركة لإهمال السلطة وضعف المجلس البلدي في عرسال، اذ لم يستطع الاهالي حتى الآن انتاج بلدية فاعلة تمتلك رؤية واضحة وبرنامجا محددا، وذلك لأسباب عديدة منها ضعف الوعي عند الأهالي بأهداف وتقنيات الممارسة الديمقراطية في الانتخابات، وسيطرة بعض الأشخاص الغير مؤهلين على قرار العائلات التي تشكل القالب الذي ينتج البلدية، والتدخلات السياسية من جهات قد لا تأخذ مصالح البلدة بعين الاعتبار، والعديد من الاسباب الأخرى والتي لا يمكن حصرها هنا.ولا بد من الاشارة ايضا، على المستوى الاجتماعي، إلى ضعف المرجعيات الدينية، والتي يمكن ان تلعب دورا هاما في النهوض بالبلدة؛ فممثلو الهيئة الدينية في البلدة عموما، لا يملكون رؤية واضحة وشاملة عن مشاكل البلدة وكيفية معالجتها، وإن كان هناك من محاولات في هذا المجال، فهي تكون فردية وتفتقر إلى الشمولية ووضوح الرؤية والمتابعة.


في الخلاصة، فإن موقع عرسال الجغرافي، وما ينتج عنه من واقع سياسي ومذهبي، والموقف السلبي للسلطة من هذا الواقع، هو السبب الرئيسي برأيي لمشاكل هذه البلدة المكافحة، وأي حل لهذه المشاكل يجب ان يأخذ بعين الاعتبار هذه العوامل الاساسية، سواء من قبل السلطة والأحزاب، او من قبل مؤسسات المجتمع المدني من بلديات و جمعيات وغيرها.