عرسال.. مدينة منسية تتحدى الحرمان

البقاع الشمالي- احمد طي


إنها عرسال، أو "عرش إيل" مدينة قابعة في اقصى الشمال الشرقي من محافظة بعلبك الهرمل، تتدرج ارتفاعاتها بدءاً من 1200م (شمالا) وصولا الى 2600 م (طلعة موسى، جنوبا) وهذا يفسر السبب الذي حدا بالآراميين إلى تسميتها بعرش ايل اي مصطبة الاله نظراً لموقعها المرتفع بالنسبة الى القرى المجاورة .
زراعة مزدهرة
تشتهر عرسال بزراعة أنواع عالية الجودة من الكرز والمشمش، ويتم تسويق هذه المنتجات بشكل رئيسي ما وراء الحدود. اذ غالباً ما يأتي التجار من المناطق الشامية القريبة لشرائها. وتنشط أعمال "التهريب" في هذه الفترة من السنة، حيث يتم بيع كميات كبيرة من الفاكهة بطرق غير شرعية للتجار السوريين وذلك بسبب القرب الجغرافي من الحدود السورية، والطلب العالي والمتزايد على هذه المنتجات في السوق السورية، مما يجنب المزارع العرسالي مشقات النقل عبر طرقات زراعية وعرة وغير مؤهلة.
ثروة حيوانية
يلاقيك في بعض الشوارع فلاح على حماره يستقل طريق الحقل باكراً وترى في المساحات المحيطة بالتجمعات السكنية راعياً يحرس قطيعه اذ ان البلدة تشتهر بامتلاكها لأكبر قطيع من الماشية في لبنان، ويعتمد قسم كبير من سكان البلدة في معيشتهم على الثروة الحيوانية من أغنام، ماعز ، أبقار ودواجن.
لعرسال بلدية
تأسست بلدية عرسال سنة 1952. وأجريت أول انتخابات بلدية بعد انتهاء الحرب اللبنانية بتاريخ 14 حزيران سنة 1998. وبلغ عدد اعضائها 18 عضوا اما المجلس البلدي الحالي فيضم 21 عضوا ذكرا. وهناك 12 مختاراً في البلدة، تنجز المعاملات الادارية في اللبوة حيث قلم النفوس وفي بعلبك وزحلة وبيروت.
"البناء" قصدت عرسال، والتقت أهاليها، مسلطة الضوء معهم على معالم الحرمان في بلدتهم، وعلى التحديات التي يقومون بها لكسر حدة هذا الحرمان.

تاريخ
الحاج ديب حسن عزالدين، 87 عاماً يحصر عمر بلدة عرسال بين 300 و400 سنة، حيث كانت خراباً (مدينة مسكونة تحولت الى خراب) وأول الوافدين اليها كانوا آل حميد ومن بعدهم آل كرنبي الذين وفدوا من خربة يونين ومن بعدهم آل زعرور لتكّر السبحة وتبنى البلدة من جديد.
ويتذكر الحاج ديب أيام الزمن الجميل على حد تعبيره، قبل وضع الحدود من قبل الفرنسيين والانكليز،" بيننا وبين سورية ثمة قرابة ومصاهرة، هناك عائلات من عرسال سكنت قرى قارة والجراجير وفليطة، وفي النبك أيضاً، أذكر يوم لم يكن ثمة حدود، كيف كانت حياتنا طبيعية يسودها الوئام والمحبة، ولكن مهما بلغت أفعال السياسة في التفرقة فلن يسود في النهاية سوى الحق.

لن نقفل الكسارات
يلخص رئيس بلدية عرسال السيد علي محمد الحجيري مظاهر الحرمان في بلدته بعدة نقاط أهمها: حرمان شباب البلدة من وظائف الفئة الاولى في الدولة، حرمان البلدة من شبكة صرف صحي بحيث أنه يوجد في عرسال أكثر من 6000 حفرة صحية مما يسبب التلوث المحتم للمياه الجوفية، كما أن المزارعين في البلدة يشكون إهمال وزارة الزراعة للقطاع حتى ولو بزيارة، والأهم من كل ما سبق فإن عرسال كالبلدات المحيطة بها محرومة من مستشفى قريب ينقل اليه المرضى بالسرعة المطلوبة.
وعن وجود كسارات وبشكل كثيف في البلدة يجيب الحجيري:" هذه الكسارات تعتبر مورد رزق لأكثر من 80% من سكان بلدتي، إنها خط أحمر لن نسمح لأي أحد أو أي جمعية أو أية جهة كانت بإقفالها حتى لو اضطررنا للدفاع عنها بأجسادنا."
وعن مشاريع البلدية يتابع الحجيري:" سنكون في مقدمة المطالبين بحقوق عرسال كما وأننا استحصلنا على 500.000.000 ل.ل. من وزارة الاشغال العامة والنقل لتنفيذ مشاريع لها علاقة بالبنى التحتية، أما وزارة التربية فلقد توصلنا معها الى اتفاق لدعم المدارس في البلدة، ومن الناحية البيئية فإن البلدية قامت بحملة تشجير واسعة وستستمر في الموسم المقبل.

الأرض هي الأهم
من جهته نائب رئيس البلدية احمد حسن الفليطي يعتبر أن فرز الاراضي وتسجيلها رسمياً باسم مالكيها أهم من أي مشروع آخر:" الأراضي ما زالت غير ممسوحة في هذه المنطقة فقط من لبنان والتي تمتد من بلدة يونين حتى الهرمل، إذ أنها ما زالت تخضع للقانون العثماني، ونلمس ذلك اليوم في العرقلة التي تواجه من يريد بناء منزل او ترميم آخر، إذ أنه يُطالَب بجلب رخصة ملك فيفاجأ أنها ما زالت بإسم جدوده، وإذا أراد حصر الإرث فيكلفه ذلك أضعاف ثمن الارض."
ويتابع الفليطي:" إن حل هذه المشكلة يؤمن للدولة مدخولاً لا بأس به من خلال الرسوم المفروضة على الاراضي المفروزة وعلى تراخيص البناء والترميم"

نشاط محلي
وتنشط في عرسال جمعيات عدة تتنكب مسؤولية مؤازرة البلدية والمواطنين في التوصل الى حياة افضل ضمن بلدتهم، ولعل أبرزها جمعية التنمية الريفية التي حدثنا بإسمها أمين سرها الاستاذ خالد الفليطي حيث لخص أهداف الجميعة وأعمالها بتنمية الموارد البشرية المحلية في عرسال ويقول:" نحن في عرسال لنا أهداف واضحة، هي كيفية النهوض بالإمكانيات المتوفرة في البلدة من أجل تأمين حياة أفضل وترسيخ علاقة أهالينا بأرضهم وبلدتهم، ولقد أقمنا أنشطة كثيرة ومشاريع كبيرة منها دورات تدريبية على المهارات الشبابية، دعم القطاع الزراعي والانتاج الحيواني من خلال استقدام مساعدات ودورات ترشيدية من قبل جمعيات لبنانية واخرى عالمية، الاهتمام بالبيئة من خلال تنظيم ورش تشجير سنوية في البلدة وإقامة محاضرات تحذر المواطنين من مغبة خطر التلوث والاحتباس الحراري، كما واننا افتتحنا مشغلاً صغيراً لسيدات عرسال يعملن فيه على صناعة بعض المنتوجات البلدية الخالية من مواد حافظة، كالمربيات والكشك واللبنة والجبنة والكبيس والمكدوس وما إلى ذلك، بالاضافة الى محترف لتعلم صناعة السجاد."
وعن الاهتمام بالانتاج الحيواني يتابع الفليطي:" وتتلخص التحديات المهمة التي تواجهها البلدة بربط قطاع تربية الأغنام والماعز، مع ما يمتلكه هذا القطاع من مقومات كبيرة ونقاط قوة، مع قطاع الحرف اليدوية، بحيث تكون الإفادة متبادلة للجميع في البلدة. فمن جهة، يستفيد مربو المواشي من بيع انتاجهم من الصوف الطبيعي باسعار لا ترهق الحرفيين، مما يزيد من دخلهم المادي ويرفع بالتالي من مستوى معيشتهم، ومن جهة ثانية يستفيد الحرفييون، وبخاصة النساء، من توفر المواد الاولية جيدة النوعية لزيادة إنتاجهم من الصناعات الحرفية وتطوير مهاراتهم وزيادة فرص العمل لديهم. ولهذا القطاع مشاكله ومعاناته القديمة، ونذكر منها: المستوى المنخفض لتسويق الإنتاج، تدني أسعار المبيع، ارتفاع أسعار الأعلاف، ارتفاع التكاليف الصحية البيطرية، غياب الإرشادات والصيدليات الزراعية والبيطرية."

صناعات و حرف
الصناعات الحرفية تنشط في هذه البلدة البعيدة ،مسؤول العلاقات العامة في جمعية التنمية الريفية في عرسال احمد الفليطي تحدث للبناء عن الصناعات الحرفية في بلدته قائلاً:" تشتهر بلدتنا بالعديد من الصناعات الحرفية منها: صقل الحجر حيث يوجد في عرسال 120 مصنعاً يعمل فيها حوالى الالف عامل، وصناعة حجر البناء (8 مصانع يعمل فيها 50 عامل)، منجور الخشب(20 مصنعاً تضم 40 عامل) بالاضافة الى مصانع صغيرة للحدادة ونجارة الألمنيوم وحياكة السجاد والبسط ومعامل لصناعة الحلويات والأجبان والألبان."
وعن مشاكل القطاع الحرفي يتابع الفليطي:"يعاني هذا القطاع من عدة مشاكل نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر : صعوبة تسويق الإنتاج بسبب إرتفاع الأسعار كونها صناعات يدوية، غياب التخطيط، وبرامج التطوير، غياب الفرص التسويقية، عدم وجود اماكن لعرض الانتاج الحرفي، عدم القدرة على استئجار مراكز للعرض في العاصمة وفي المدن الكبرى، عدم توفر المواد الأولية ضمن البلدة مثل (خيوط الغزل) حيث تتم صناعتها يدوياً، اهمال الجهات الرسمية للقطاع كوزارة السياحة ووزارة الثقافة."
وعن مشاكل القطاع الصناعي يضيف الفليطي:" قطاع صقل الحجر يعاني من صعوبة العمل، مضاربة الأسعار، التقنية القديمة والآلات البدائية المستخدمة، غياب الضمانات الصحية والإجتماعية للعمال، تزايد نسبة المعاقين من بين العاملين في هذا القطاع. أما بالنسبة لنحت الحجر فيعاني من ضعف الخبرة وعدم المعرفة بقوانين النحت، عدم توفر دورات تدريبية حول النحت وأساليبه، عدم توفر الألات الحديثة التي تساعد على تطور القطاع."

المواطن هو المسؤول
من جهته، يعتبر الأستاذ في مهنية عرسال صالح عز الدين المواطن المسؤول الاول عن الحرمان في مجتمعه، فهو الذي لا يطالب، وهو الذي لا يبادر، وهو من ينقصه الوعي بحقوقه وكيفية الحصول عليها،" لذا ارى أنه من الواجب ملاحقة هذا المواطن يومياً وبشتى الوسائل، محاضرات، ندوات، ورش عمل، نشرات مكتوبة وما الى ذلك، وايضاً أرى من الضروري دعم الجمعيات التي لا تبغى الربح والتي تشكل مع المواطنين نمط ضغط على الجهات المخولة بالانماء من أجل القيام بواجبها."

أريد حقوقي
الطفلة مروه الفليطي، 7 سنوات، أحبت أن يسمع الجميع صوتها عبر "البناء" مطالبة بحقوقها:" من حقي أن أتعلم في مدرسة تؤمن لي مستوى تعليمياً جيداً وبسهولة تامة، من حقي أن ألعب في حديقة عامة مع صديقاتي، من حقنا أن ننعم نحن الاطفال بمكتبة عامة ننهل من علومها وكتبها، ومن حقي أن أعيش حياة كريمة في بلدتي."

عرش الحرمان
"عرش إيل" مدينة تبقى متربعة على عرش الحرمان ما لم تلتفت الدولة بكل وزاراتها ودوائرها اليها، قد لا يكفي هذا التحقيق للاضاءة على جميع جوانب الحرمان فيها، لكنه غيض من فيض، ولنا مع عرسال حكايات اخرى عن الحرمان.

جغرافيا

تقع عرسال ضمن أودية وهضاب سلسلة جبال لبنان الشرقية. يحّدها من الشمال بلدات الفاكهة ورأس بعلبك والقاع، ومن الجنوب نحلة ويونين، ومن الشرق الحدود السورية، ومن الغرب تجمع البلدات من رسم الحدث وصولا الى اللبوة والنبي عثمان. تبلغ مساحتها حوالي 440 كلم مربع وهي من اكبر بلدات لبنان (22/1 من مساحة الجمهورية اللبنانية) تتبع لقضاء بعلبك وتبعد عن بيروت العاصمة 120 كلم.
تدل الخرائب والشواهد الاثرية المنتشرة فيها على انها كانت مسكونة منذ العهود القديمة (الفينيقية - اليونانية – الرومانية).
يقدر عدد المنازل بحوالي ال 5000 منزل، وهي تنتشر بطريقة افقية وعشوائية يغيب عنها اي تنظيم، في حين يقدر عدد السكان الإجمالي بـ 40000 نسمة موزعين على 6000 اسرة بمعدل 6,6 اشخاص للأسرة الواحدة بنسبة (48 % ذكور و52 % اناث) ، عدد الناخبين 14000 ناخب وهناك 700 ولادة سنويا مما يرفع نسبة الزيادة السكانية الى اكثر من 2%.
من ابرز العائلات في عرسال: الحجيري – الفليطي – عزالدين – الأطرش - زعرور – كرنبي - خلف – أمون – غدادة – الددة – الحسن – شاهين – رايد – بحلق – عودة - نوح – الصميلي – الرفاعي – حميد - الدوسالي وغيرها. يقدر عدد المقيمين في البلدة بحوالي ال 35000 نسمة وعدد النازحين 5000 نسمة موزعين على مشاريع القاع وقب الياس وبعلبك وبيروت وتشهد البلدة حاليا حركة نزوح معاكسة نظرا لازدياد فرص العمل فيها. تعتبر نسبة الهجرة والاغتراب ضئيلة في البلدة، فهناك حوالي 30 عائلة مغتربة (دول اوروبا – كندا – الخليج – ليبيا ....) وان دل هذا على شيء، فهو يدل على تمسك أهالي عرسال بالبقاء في أرضهم بالرغم من بعدها عن العاصمة وبالرغم من طبيعتها الصعبة ومناخها القاسي.

موضوع مميز الف شكر